لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا

خدمة الصلاة من أجل وحدة المسيحيين
بيت لحم – كنيسة القديسة كاترينا الرعوية – ١ شباط، ٢٠١٨
"لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا"
القسيس د. منذر اسحق
نعمةٌ لكم وسلامٌ من الله أبينا والربّ يسوع المسيح
اخوتي الكهنة والرعاة، أيها الأحباء!
لقد صلى يسوع المسيح قبل آلامه من أجل تلاميذه ومن أجلنا نحن الذين سنؤمن به، وكانت صلاته لنا "أن نكون واحدًا"، وقد أتينا في هذا المساء إلى هذا المكان لكي نعيش ونجسّد هذه الوحدة التي صلى من أجلها المسيح.

تعود جذور أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين إلى بدايات القرن العشرين، وهو ما نسميه قرن العمل المسكوني، إذ بدأ المسيحيون في بدايات هذا القرن بالتقارب والتحاور بعد سنينٍ من النزاعات والانقسامات التي تحزن قلب الله.


سعت الحركة المسكونية منذ بداياتها إلى العمل من أجل الوحدة بين المسيحيين، انطلاقًا من مبدأ أنه يوجد في الواقع كنيسة واحدة – وهي التي نعترف بها جميعنا في قانون الإيمان: "كنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية." فهذه نقطة انطلاق الحركة المسكونية. كما وشددت هذه الحركة بأننا جميعًا معًا نشكل هذه الكنيسة – لا منفردين بل مجتمعين. وعقائديًا، وحدتنا هي بإيماننا الرسوليّ، وقوانين الإيمان، وأيضًا بسرّ المعمودية المقدس.  وكما قال الرسول بولس: "ربٌّ واحدٌ، إيمانٌ واحدٌ، معموديةٌ واحدة." فما تعلمنا إياه هذه الآية هو أن المعمودية الواحدة ترتبط بالإيمان الواحد والربّ الواحد.

أيها الأحباء: كلنا يدرك أن ما يجمعنا هو أكثر بكثير مما يفرقنا. نعم، ما يجمعنا هو أكثر بكثير مما يفرقنا. لذا وجب علينا التركيز على ما يجمع، دون إنكار أو إهمال ما يُفرّقنا. هناك مقولة شهيرة نستخدمها في الحوار المسيحيّ:
-          في أساسيات الإيمان – وحدة
-          في القضايا الثانوية – حرية
-          في كل القضايا – محبة

والقضية هي ليست مُجرّد التشديد على أننا واحد في المسيح، أو على أنّ ما يوحدنا هو أكثر مما يفرقنا، بل هي أكثر من ذلك، فشددت الحركة المسكونية ومنذ البداية أن لدى كل عائلة مسيحية أمور مميزة وذات قيمة تقدمها لباقي العائلات، لذا فيجب أن نستفيد من الغنى والتجربة الروحية والليتورجية الموجود في العائلات المسيحية المتعددة. كل واحدة من كنائسنا لديها نقاط قوة، وبتواضع يجب أن نسعى لكي نتعلم من الآخر. نحن نتكلم إذًا عن تنوع لا عن اختلاف. وفي هذا التنوع غنىً وفائدة للجسد الواحد.

ومن المهم أيضًا التشديد على مبدأ الحرية في الحفاظ على طقوس وتقاليد وخصائص كل كنيسة. في هذا السياق يقول سيدنا المطران جورج خضر:
"إذا أردنا وحدة واقعية نحياها في الوحدة والتنوع الشرعي، لا بد من ان نلاحظ اننا لا نستطيع ان نذيب الكنيستين في قالب واحد، فهناك مسيحية غربية ومسيحية شرقية ولكل منهما خصوصيات...هناك ضرورة لنتمسك بالأشياء الضرورية كليا ونهمل الأشياء الأخرى إلى حرية الكنيسة الأخرى. ما هو الضروري جدا وما هو الأقل ضرورة؟ هذا أمر متروك للمناقشات والتفاوض بين الكنائس."
أيها الأحباء، التحدي الذي يضعه المسيح أمامنا اليوم من خلال كلمته المقدسة هو: كيف نعيش وحدتنا المسيحية في أرض المسيح، في زمنٍ مليء بالتحديات والضغوطات؟ هل الموضوع مجرّد صلاة نقيمها مرّة واحدة في السنة؟ هل هذه هي الوحدة؟ طبعًا ليس الأمر بهذه السهولة، وإلا أصبحنا معرضين أن نحول هذه الصلاة إلى تمثيلية نتظاهر بها بتقاربنا. يجب أن يذهب الأمر إلى ما هو أبعد من صلاة سنوية. صلاتنا اليوم هي نقطة الانطلاق لمحبة وشراكة مسيحية نحن بأمس الحاجة إليها اليوم في بلادنا. لقاؤنا اليوم يحثنّا بل ويفرض علينا أن نعمل معًا وفي كل وقت من أجل ملكوت الله في أرضنا.

فالوحدة المسيحية هي صلاة مستمرة من أجل الآخر؛ هي قبول الآخر في كلامنا وعظاتنا وكتاباتنا؛ هي مبادرات ولقاءات بين رعايانا وشبابنا؛ هي تعاون بين مؤسساتنا؛ وهي قبل كل شيء محبة نقيّة صادقة بعضنا لبعض.
وفي وقتٍ تتزايد فيه الضغوطات علينا جميعًا اليوم، فعلينا أن نتكاثف ونتحد، ففي جمعتنا قوة وعزاء لبعضنا. لم يعد للفرقة مكان بيننا. يقول الحكيم في سفر الجامعة ٩:٤-١٢ "اِثْنَانِ خَيْرٌ مِنْ وَاحِدٍ، لأَنَّ لَهُمَا أُجْرَةً لِتَعَبِهِمَا صَالِحَةً. لأَنَّهُ إِنْ وَقَعَ أَحَدُهُمَا يُقِيمُهُ رَفِيقُهُ. وَوَيْلٌ لِمَنْ هُوَ وَحْدَهُ إِنْ وَقَعَ، إِذْ لَيْسَ ثَانٍ لِيُقِيمَهُ... وَالْخَيْطُ الْمَثْلُوثُ لاَ يَنْقَطِعُ سَرِيعًا."

أخيرًا أقول، إن وحدتنا هي رسالة وشهادة للعالم عن إنجيل النعمة وصليب المسيح. في انجيل اليوم، قال يسوع: " لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا... لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي".

"ليؤمن العالم أنك أرسلتني". عندما نكون واحدًا، سنعطي رسالة للعالم عن إلهنا. ويسوع أيضًا قال: "بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ". ميزتنا الأولى والتي يجب أن تسمو على أيّ شيء آخر هي المحبة. فنحن نظهر أننا تلاميذ المسيح، لا بالعدد، أو الغنى، أو قوة المؤسسات، أو بكتاباتنا، أو أي إنجاز... بل بالمحبة! فكيف نعظُ عن المحبة إن لم نعشها أولاً بيننا؟  

اخوتي واخواتي. دعونا نتضع اليوم أمام مذبح الصلاة، مدركين أننا نتكل بالكامل على الله ونعمته في سعينا للوحدة. يقول قداسة البابا فرنسيس:
"إن المصالحة التي نحن مدفوعون إليها ليست مجرّد مبادرة من قبلنا وإنما هي أولاً المصالحة التي يقدّمها لنا الله بالمسيح. فقبل أن تكون مجهودًا بشريًّا لمؤمنين يسعون لتخطّي انقساماتهم، هي عطيّة مجانيّة من الله؛ وكنتيجة لهذه العطيّة، يصبح الشخص، المحبوب والذي غُفر له، مدعوًّا بدوره ليعلن إنجيل المصالحة بالكلمات والأعمال ويعيش ويشهد من خلال حياة مُصالحة."
ولنتذكر جميعًا، أنّ لنا جميعًا مخلّص واحد – وأننا جميعًا تلاقينا في صليب الجلجثة قبل أن نلتقي اليوم. هناك كان فدائنا، وهناك تلاقينا في المسيح الذي يجمعنا، والذي صالحنا مع الله وبعضنا ببعض. وكلنا في الصليب كحال ذاك اللّص، لا حول لنا ولا قوة إلا لأن نقول: "اذكرني يا ربّ متى جئت في ملكوتك".


فلإلهنا الْمَجْدُ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ إِلَى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ الدُّهُورِ. آمِينَ


Comments